شرح اسم الله الكافي
أمين بن عبد الله الشقاوي
قال - تعالى -: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95].
قال ابن القيِّم - رحمه الله -:
وَهُوَ الْحَسِيبُ كِفَايَةً وَحِمَايَةً *** وَالْحَسْبُ كَافِي الْعَبْدِ كُلَّ أَوَانِ [1]
والتوكُّل على الله سببُ كفاية الله لعبده؛ قال - تعالى -: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3]؛ أي: كافيه كلَّ أموره الدِّينيَّة والدنيويَّة، والتوكُّل هو اعتماد القلْب على الله في حصول المطلوب، ودفْع المكروه، مع الثِّقة به، وفعْل الأسباب المأذون فيها شرعًا[2].
قال بعضُ السلف: جعل الله - تعالى - لكلِّ عمل جزاءً من جنسِه، وجعل جزاءَ التوكل عليه نفسَ كفايته لعبده؛ فقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، ولم يقل: نؤتِه كذا وكذا من الأجْر، كما قال في الأعمال؛ بل جعل نفسَه - سبحانه - كافيَ عبدِه المتوكِّلِ عليه، وحسبه وواقيه[3].
فلو توكَّل العبدُ على ربِّه حقَّ التوكل بأنِ اعتمد بقلْبه على ربِّه اعتمادًا قويًّا كاملاً في تحصيل مصالحه، ودفْع مضارِّه، وقويت نفسُه، وحسُن ظنُّه بربِّه، حصلتْ له الكفاية، وأتمَّ الله له أحوالَه، وسدَّده في أقواله وأفعاله، وكفاه همَّه، وجَلاَ غمَّه[4]، فهناك لا تسأل عن كلِّ أمر يتيسَّر، وصعْبٍ يسهل، وخطوبٍ تهون، وكروبٍ تزول، وأحوالٍ وحوائجَ تُقضى، وبركاتٍ تنزل، ونِقمٍ تُدفع، وشرورٍ تُرفع[5].
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: إذا عَلِم العبدُ أنَّ الله هو الكافي عبادَه رِزقًا ومعاشًا، وحفظًا وكلاءةً، ونصرًا وعزًّا، اكتفى بمعونته عمَّن سواه، وإذا كان كذلك، وَجَب ألاَّ يكون الرجاء إلا فيه، والرَّغبةُ إلا إليه، روى النسائيُّ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن استكفى، كفاه الله - عز وجل -))[6]، فمَن وقع في شِدَّة وضيق، فليطلبْ من الله الكفايةَ، فإنَّ الله يكفيه.
وفي "صحيح مسلم" في قصَّة الغلام المؤمن، لمَّا أبى أن يرجعَ عن دِينه: "دفَعَه الملِك إلى نَفَرٍ من أصحابه (أي: جماعة من الناس)، وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا - جبل معروف عندهم شاهِق رفيع - وقال لهم: إذا بلغوا ذروتَه فاطرحوه؛ يعني: على الأرض؛ ليقعَ من رأس الجبل فيموت، بعدَ أن تَعرِضوا عليه أن يرجع عن دِينه، فإنْ رجع وإلا فاطرحوه، فلمَّا بلغوا قمَّة الجبل، فطلبوا منه أن يرجع عن دِينه، أبَى؛ لأنَّ الإيمان قد وَقَر في قلبه، ولا يمكن أن يتحوَّل أو يَتزحزح، فلمَّا همُّوا أن يطرحوه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ - دعوة مضطر مؤمن - أي: بالذي تشاء ولم يُعيِّن، فرجف الله بهم الجبلَ فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملِك، فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟! فقال: قد كفانيهم الله، ثم دَفَعه إلى جماعة آخرين وأمرَهم أن يركبوا البحر في قُرقُور (سفينة)، فإذا بلغوا لُجَّة البحر عرَضوا عليه أن يرجع عن دِينه، فإن لم يفعلْ رمَوْه في البحر، فلمَّا توسَّطوا من البحر، عَرَضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان بالله - فقال: لا، فقال: اللهم اكفنيهم بما شِئت، فانقلبتِ السفينة وغرقوا، وأنجاه الله"[7]، [8].
ثانيًا: مَن كان عليه دَينٌ فليتضرَّعْ إلى الله - تعالى - ليكفيَه همَّ الدَّين؛ روى الترمذيُّ في سُننه من حديث علي - رضي الله عنه -: أنَّ مُكاتبًا جاءه، فقال: إني قد عجزتُ عن كتابتي فأعنِّي، قال: ألا أُعلِّمك كلماتٍ علَّمنيهنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان عليك مثلُ جَبل صِيرٍ دَينًا، أدَّاه الله عنك؟ قال: ((قل: اللهمَّ اكْفِني بحلالك عن حرامك، وأغْنني بفضلِك عمَّن سواك))[9].
ثالثًا: أنه يُشرع للعبد أن يسأل الله الكافي أن يكفيَه شرَّ الأعداء؛ قال - تعالى -: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 137]، فيقول: يا كافٍ، اكفني شرَّ فلان، الذي ظلَمه أو آذاه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف مِن رجلٍ أو مِن قوم، قال: ((اللهمَّ إني أجعلك في نحورِهم، وأعوذ بك مِن شرورهم))[10].
وروى البخاريُّ في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((حسبُنا الله ونِعم الوكيل)) قالها إبراهيم - عليه السلام - حين أُلْقِي في النار، وقالها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173][11].
رابعًا: أنَّ الله - تعالى - كفَى المؤمنين شرَّ أعدائهم في مواطنَ كثيرةٍ، فعلى سبيل المثال في غزوة بدْر مع قلَّة عددهم، ونقص عُدَّتهم وضعْفهم، نصرَهم الله وكفاهم الأعداء، قال - تعالى -: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)[آل عمران: 124].
وكذلك في غزوة الخندق أو الأحزاب، كفاهم الله شرَّ الأحزاب التي تجمَّعت عليهم، قال - تعالى -: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب: 25].
الخلاصة: أنَّ (الكافي) اسم من أسماء الله - تعالى - وهو بمعنى الكافي عبادَه جميعَ ما يحتاجون، ويضطرون إليه، رِزقًا ومعاشًا وقُوتًا، الكافي كفاية خاصَّة مَن آمن به، وتوكَّل عليه، واستمدَّ منه حوائجَ دِينه ودنياه.
ويُشرع للمسلِم أن يسأل ربَّه بهذا الاسم أن يكفيَه شرَّ مَن ظلمه وآذاه[12].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
___________________
[1] "النونية" (2/233).
[2] "القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/228).
[3] "بدائع الفوائد" (2/766-767).
[4] "فتح الرحيم الملك العلاَّم" (ص: 53 - 54).
[5] "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 920).
[6] جزء من حديث ص 279، برقم 2595، وصحَّحه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن النسائي" (2/227).
[7] "شرح رياض الصالحين" (1/219-220).
[8] انظر: قصة الغلام في "صحيح مسلم" (ص: 1202) برقم (3005).
[9] ص 559 -560، برقم 3563، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصحَّحه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (3/464).
[10] (32/493) برقم (19719)، وقال محقِّقوه: حديث حسن.
[11] (ص: 865) برقم (4563).
[12] انظر: كتاب أخينا الشيخ عبدالهادي وهبي "الأسماء الحسنى والصفات العلى" (ص: 217-221)