ويلك آمن...!
محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ)
نُشر عام 1358هـ الموافق 1940م
أيام من الدهر حائرة في أودية الزمن، وساعات تخلع المصائب وتلبسها بين الثانية والثانية، ورعب مظلم خيَّم على الأرض فلا تُضيئه إلا شقائق النار، وهي تفري الجو ذاهبة وآيبة، وحيرة سابحة فيها عقول البشر لا تدع قرارًا لفكر ولا خيال، وسهام نافذة من البلايا تفتق نسج النفس الإنسانية فتقًا رغيبًا يتعايا على الراقع والمصلح... فياله من بلاء مطبق على العالم إطباق اليوم الصائف يسدُّ بحَرِّه منافذ الأنفاس.
ما الحياة؟ ما الإنسان؟ ما العقل؟ ما الحضارة؟ إلى أين نسير؟ كيف نعمل؟ لماذا نعيش؟ فيم نتعب؟ تبًّا لكلِّ هذه الضلالات الداجية التي لا يبرق فيها نجم واحد يقول للإنسان: اتبعني، سوف تهتدي!!
هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يُحلُّ، وساقت الناس إلى مرعى من الشك وبيء، كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء، فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوبًا تتجلَّى فيه، فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب، هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه، فلا هو ينتفع بنفسه، ولا ينتفع العالم به.
لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية، فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردَّها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتمُّ لعمل تمام، ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح، وطهارة الروح، وقدس الروح.
أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشرِّ والرذيلة، فخرجت من مكانها جائعة قد سلبها الجوع كلَّ إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنَّ، وتنزَّى في الأرض وحشًا يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سامٍ، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء؛ لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما الفرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور.
وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب، فما طُلب فهو الجيد، وما عمي على الطالب فهو الرديء الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوى، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق.
فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القوى؛ لأن القوة تسوغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف؛ لأن الضعف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين معدلة ولا نصفة، وليس أحدهما من الآخر إلا كالثعبان من العصفور إذا عرض له، فسلط عليه الرعب من عينيه، فينتفض في قبضة أشعتهما المفترسة المسمومة حتى يبرد دمه فلا يستطيع حركة، ولا يتنغش بدنه بذماء من الحياة.
هي الشريعة التي تجعل إنسانها القوي مقبرة لإنسانها الضعيف، فالقوي أبداً آكل قد أرمت في نفسه تلك الجيف التي انتهشها وألقى بها في معدته، فتجيفت وتعفنت، وتصاعدت أرواحها المنتنة في حياته، فجعلته متسرعاً نفاذاً كأنما يريد أن يهرب بنفسه من نفسه التي لا يطيق جوها؛ لأنه جو خانق، تطوف فيه أشباح الفرائس المسكينة التي بطشت بها أنيابه ومخالبه.
هذه الحضارة القابرة التي تدنست روحها بالرمم التي ضعفت أن تقاوم القوة، لن تستطيع إلا أن تفسد العالم وتدنِّسه كما تدنَّست، فإنه محال أن تكون الشريعة مدنسة نجسة، وتأتي الناس بخير طاهر مبارك يغسل أدران الإنسانية التي تتجمع عليها يومًا بعد يوم، ولا أن تخرج نفس الإنسان فيها مع الفجر ندية مشرقة رفافة، تستقبل بفضائلها أعمال نهارها.
إن شريعة إعزاز القوي وإعلاء الأقوى، وإذلال الضعيف وإسقاط الأضعف، هي الشريعة الحيوانية التي لم تعل إلا بإذلال الروح والعقل وإسقاطهما ونبذهما، هي شريعة البغي والعدوان على الروح بالروح الشيطانية، وعلى العقل بالعقل المتمرد، وكلما استحكم أمرها كانت الإنسانية ذاهبة إلى نبع نجس تنغمس فيه لتصدر عنه أقوى مما وردت – أي أنجس مما وردت.
إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف! هذا حق لا يمارى فيه إلا مكابر أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنساني الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزلي الذي بعث الحياة بعثاً في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضى وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فتقع اللذة منها موقع الألم، وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة، وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سرَّ وما ساء.
والعمل الإنساني المستمد روحه من العمل الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية، ولكن على معنى التخفف من تعب الغِنى وتعب القوة.
أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه؛ لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة، فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع؛ لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه؛ لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها.
وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضًا للمسلم لا يرضى منه غيره، وردَّ معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغني والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى، بل هو معنى يوحد الناس حتى ليس لأحد فضل على أحد إلا بقدر منه، وحتى إن العبد المملوك العاجز ليرفعه إيمانه على من ملكه واستبد به وأعتق رقبته بماله، إذا لم يكن هذا المالك قد استحق بإيمانه مرتبة هذا العبد.
وفي بعض الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء هداية إلى هذا الأصل، فقد رُوي عن المعرور بن سويد أنه قال: ((لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية!! إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
ولا ينتهي عجب متعجب من بلاغته صلى الله عليه وسلم، وكيف ينزل كلامه تنزيلًا في معانيه، تدور بها دورة دائمة لا تنتهي على نظام ثابت لا يتبدل. فقدم صلى الله عليه وسلم الأخوة بين المؤمنين؛ لأنها هي الأصل الذي لا يتمُّ معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردَّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال: ((إخوانكم خولكم)) ولم يقل: (خَوَلكم إخوانكم)، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سبَّه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء.
ثم انظر كيف قال: ((جعلهم الله تحت أيديكم))، ((فمن كان أخوه تحت يده))، وكيف حرَّر الإنسان من ربقة العبودية على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمته قبضته. ثم درج على هذا الأسلوب البليغ حرفاً بعد حرف حتى قال: ((فإن كلفتموهم فأعينوهم))، وذلك زكاة القوة التي بها مَلَك المالكُ، واستخدم المستخدم. فإذا كان المؤمن قد قوى على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز، أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يداً وأقوى قوة.
فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد، فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم.
فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهدي النوراني، الذي جعل النظام الاجتماعي سموًّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟
{وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف : 17]
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/193)(بتصرف)